فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عطية: وما قال بعض الناس من أن اليمين أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمائل، وأفرد اليمين فتخليط من القول ومبطل من جهات.
وقال ابن عباس: إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلًا، ثم بعث الله عليه الشمس دليلًا فقبض إليه الظل، فعلى هذا تأول دورة الشمس بالظل عن يمين مستقبل الجنوب، ثم يبدأ الانحراف فهو من الشمائل، لأنه حركات كثيرة وظلال منقطعة، فهي شمائل كثيرة، فكان الظل عن اليمين متصلًا واحدًا عامًا لكل شيء انتهى.
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بابن الصائغ: أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين، لأنّ ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية: هذا من جهة المعنى، وفيه من جهة اللفظ المطابقة، لأنّ سجدًا جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به، فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحظهما معًا وتلك الغاية في الإعجاز انتهى.
والظاهر حمل الظلال على حقيقتها، وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان على يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أرادت الغروب كان على يسارك.
وقالت فرقة: الظلال هنا الأشخاص وهي المرادة نفسها، والعرب تخبر أحيانًا عن الأشخاص بالظلال.
ومنه قول عبدة بن الطبيب:
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية ** وفار للقوم باللحم المراجيل

وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الشاعر:
تتبع أفياء الظلال عيشة

أي: أفياء الأشخاص.
قال ابن عطية: وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قرره انتهى.
والظاهر أن السجود هنا عبارة عن الانقياد، وجريانها على ما أراد الله من ميلان تلك الظلال ودورانها كما يقال للمشير برأسه إلى الأرض على جهة الخضوع: ساجد.
قال الزمخشري: سجدًا حال من الظلال، وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق الله من شيء له ظل.
وجمع بالواو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، والمعنى: أنّ الظلال منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها.
ذاخرة أيضًا صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع انتهى.
فغاير الزمخشري بين الحالين، جعل سجدًا حالًا من الظلال، ووهم داخرون حالًا من الضمير في سجدًا، وأن يكون حالًا ثانية من الظلال كما تقول: جاء زيد راكبًا وهو ضاحك، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالًا من الضمير في راكبًا، ويجوز أن يكون حالًا من زيد، وهذا الثاني عندي أظهر، والعامل في الحالين هو تتفيؤ، وعن متعلقة به، وقاله الحوفي.
وقيل: في موضع الحال، وقاله أبو البقاء.
وقيل: عن اسم أي: جانب اليمين، فيكون إذ ذاك منصوبًا على الظرف.
وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله: {وهم داخرون} حال من الضمير في ظلاله، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءًا أو كالجزء جاز، وقد يخبر هنا ويقول: الظلال وإن لم تكن جزءًا من الأجرام فهي كالجزء، لأن وجودها ناشىء عن وجودها.
وذهبت فرقة إلى أن السجود هنا حقيقة.
قال الضحاك: إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت وشجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت.
وقال مجاهد: إنما تسجد الظلال دون الأشخاص، وعنه أيضًا إذا زالت الشمس سجد كل شيء.
وقال الحسن: أما ظلك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد له.
وقيل: لما كانت الظلال ملصقة بالأرض واقعة عليها على هيئة الساجد وصفت بالسجود، وكون السجود يراد به الحقيقة وهو الوقوع على الأرض على سبيل العبادة وقصدها يبعد، إذ يستدعي ذلك الحياة والعلم والقصد بالعبادة.
وخصّ الظل بالذكر لأنه سريع التغير، والتغير يقتضي مغيرًا غيره ومدبرًا له، ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدىء به، ثم انتقل إلى سجود ما في السموات والأرض.
ومن دابة: يجوز أن يكون بيانًا لما في الظرفين، ويكون مَن في السموات خلق يدبون.
ويجوز أن يكون بيانًا لما في الأرض، ولهذا قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض.
وعطف والملائكة على ما في السموات وما في الأرض، وهم مندرجون في عموم ما تشريفًا لهم وتكريمًا، ويجوز أن يراد بهم الحفظة التي في الأرض، وبما في السموات ملائكتهنّ، فلم يدخلوا في العموم.
وقيل: بين تعالى في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله، بين أنّ أشرف الموجودات وهم الملائكة، وأخسها وهي الدواب منقادة له تعالى، ودل ذلك على أن الجميع منقاد لله تعالى.
وقيل: الدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب، فلما ميز الله تعالى الملائكة عن الدابة، علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح مختصة بحركة انتهى.
وهو قول فلسفي.
ولما كان بين المكلفين وغيرهم قدر مشترك في السجود وهو الانقياد لإرادة الله، جمع بينهما فيه وإن اختلفا في كيفية السجود.
وقال الزمخشري: {فإن قلت}: فهلا جيء بمن دون ما تغليبًا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ {قلت}: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولًا للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم انتهى.
وظاهر السؤال تسليم أنّ من قد تشمل العقلاء وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص من بالعقلاء، وأنّ الصالح للعقلاء وغيرهم ما دون من، وهذا ليس بجواب، لأنه أورد السؤال على التسليم، ثم ذكر الجواب على غير التسليم فصار المعنى: أن من يغلب بها، والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب، والظاهر أنّ الضمير في قوله: {يخافون} عائد على المنسوب إليهم السجود.
في ولله يسجد، وقاله أبو سليمان الدمشقي.
وقال ابن السائب ومقاتل: يخافون من صفة الملائكة خاصة، فيعود الضمير عليهم.
وقال الكرماني: والملائكة موصوفون بالخوف، لأنهم قادرون على العصيان وإن كانوا لا يعصون.
والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، فإن علقته بيخافون كان على حذف مضاف أي: يخافون عذابه كائنًا من فوقهم، لأن العذاب إنما ينزل من فوق، وإن علقته بربهم كان حالًا منه أي: يخافون ربهم عاليًا لهم قاهرًا لقوله: {وهو القاهر فوق عباده} {وإنا فوقهم قاهرون} وفي نسبة الخوف لمن نسب إليه السجود أو الملائكة خاصة دليل على تكليف الملائكة كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء مدارون على الوعد والوعيد كما قال تعالى: {وهم من خشيته مشفقون} ومن يقل منهم: إنه إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم.
وقيل: الخوف خوف جلال ومهابة.
والجملة من يخافون يجوز أن تكون حالًا من الضمير في من لا يستكبرون، ويجوز أن تكون بيانًا لنفي الاستكبار وتأكيدًا له، لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته.
وقوله: {ويفعلون ما يؤمرون} أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفذ من أمر الله تعالى. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} الآية:
تهديدٌ لكفَّار مكَّة ونَصْبُ السيئات ب {مَكَرُواْ} وعُدِّيَ {مَكَرُواْ} لأنه في معنى عملوا، قال البخاريُّ: قال ابن عباس: {فِي تَقَلُّبِهِمْ}، أي: في اختلافهم. انتهى.
وقال المهدويُّ: قال قتادة: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} في أسفارهم الضَّحَّاك: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} باللْيلِ. انتهى.
وقوله: {على تَخَوُّفٍ}، أي على جهة التخُّوف، والتخُّوفُ التنقُّص، وروي أن عمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه خَفِيَ عليه معنى التخُّوف في هذه الآية، وأراد الكَتْبَ إلى الأمصار يسأل عن ذلك، فيروَى أنه جاءه فَتًى مِن العرب، فقال: يا أمير المؤمِنِين، إِنَّ أَبي يتخَّوفُنِي مَالي، فقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ! {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} ومنه قول النابغة: الطويل:
تَخَّوَفَهُمْ حَتَّى أَذَلَّ سَرَاتَهُمْ ** بِطَعْنِ ضِرَارٍ بَعْدَ فَتْحِ الصَّفائِحِ

وهذا التنقُّص يتَّجه به الوعيدُ على معنيين:
أحدهما: أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخَّوف، أي: أفذاذًا يتنقَّصهم بذلك الشيءَ بعد الشيءِ، ويصيِّرهم إِلى ما أعدَّ لهم من العذاب، وفي هذه الرتبةِ الثالثة مِنَ الوعيدِ رأْفَةٌ ورحمةٌ وإِمهال؛ ليتوبَ التائِبُ، ويرجِعَ الرَّاجع، والثاني: ما قاله الضَّحَّاك: أنْ يأخذ بالعذابِ طائفةً أو قريةً، ويترك أخرى، ثم كذلك حتَّى يَهْلِكَ الكُلُّ.
وقالت فرقة: التخُّوف هنا: من الخْوف، أي: فيأخذهم بعد تخُّوف ينالهم يعذِّبهم به.
وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} الآية: قوله: {مِن شَيْءٍ} لفظٌ عامٌّ في كلِّ شخصٍ وجرْمٍ له ظلٌّ كالجبال والشجر وغير ذلك، وفَاء الظِّلُّ رجَعَ، ولا يقالُ: الفيء إلاَّ مِنْ بعد الزوال؛ في مشهور كلام العرب، لكنْ هذه الآية: الاعتبار فيها من أول النَّهار إلى آخره فكأنَّ الآية جاريةٌ في بعْضٍ؛ على تجوُّز كلام العرب واقتضائه، والرؤية، هنا: رؤيةُ القَلْبُ ولكنَّ الاعتبار برؤية القلب هنا إنما تكونُ في مرئيَّات بالعينِ، و{عَنِ اليمين والشمآئل}؛ هنا: فيه تجوُّز وآتساعٌ، وذكَرَ الطبريُّ عن الضَّحِّاك، قال: إذا زالَتِ الشمْسُ، سَجَدَ كلّ شيء قِبَلَ القبْلة من نَبْت أو شجر؛ ولذلك كان الصالحُونَ يستحبُّون الصلاة في ذلك الوقْت. قال الداووديُّ: وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ بَعْدَ الزَّوَال تُحْسَبُ بِمِثْلِهِنَّ في صَلاَةِ السَّحَرِ» قَالَ: «وَلَيْسَ شَيْءٌ إِلاَّ يُسَبِّحُ للَّهِ تِلْكَ السَّاعَةَ»، وقرأ: {يَتَفَيَّأُ ظلاله} الآية كلُّها. انتهى، والدَّاخر: المتصاغر المتواضع.
وقوله سبحانه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} عامٌّ لجميع الحيوانِ، و{مِّن فَوْقِهِم} يريد: فوقية القَدْر والعَظَمة والقَهْر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات}.
هم أهلُ مكةَ الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صدَّ أصحابِه عن الإيمان عليهم الرضوان، لا الذين احتالوا لهلاك الأنبياء كما قيل ولا من يعُمّ الفريقين لِما أن المرادَ تحذيرُ هؤلاء عن إصابة مثلِ ما أصاب أولئك من فنون العذابِ المعدودة، والسيئاتِ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مكروا المكَراتِ السيئاتِ التي قصت عنهم، أو مفعولٌ به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أي عمِلوا السيئاتِ، فقوله تعالى: {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} مفعولٌ لأمِن أو السيئاتِ صفةٌ لما هو المفعولُ أي أفأمن الماكرون العقوباتِ السيئةَ، وقوله: {أن يخسف} إلخ، بدلٌ من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريم أي أنزلنا إليك الذكرَ لتبين لهم مضمونَه الذي من جملته إنباء الأممِ المهلَكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك، ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئاتِ أن يخسف الله بهم الأرضَ كما فعل بقارون، على توجيه الإنكارِ إلى المعطوفين معًا، أو أتفكروا فأمِنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمنَ بعد التفكرِ مما لا يكاد يفعله أحد، وقيل: هو عطفٌ على مقدر ينبىء عنه الصلةُ أي أَمُكِر فأمن الذين مكروا الخ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه أي في حالة غفلتِهم أو من مأمنهم أو من حيث يرجون إتيانَ ما يشتهون كما حُكي فيما سلف مما نزل بالماكرين.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ} أي في حالة تقلُّبهم في مسائرهم ومتاجرهم، {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} بممتنعين أو فائتين بالهرب والفِرار على ما يوهمه حالُ التقلب والسير، والفاء إما لتعليل الأخذِ أو لترتيب عدمِ الإعجاز عليه دلالةً على شدته وفظاعته حسبما قال عليه السلام: «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلته» وإيرادُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوام النفي لا نفْيِ الدوام.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي مخافةٍ وحذرٍ عن الهلاك والعذاب بأن يُهلك قومًا قبلهم فيتخوّفوا فيأخذَهم العذابُ وهم متخوّفون، وحيث كانت حالتا التقلّبِ والتخوّف مَظِنةً للهرب عُبّر عن إصابة العذابِ فيهما بالأخذ وعن إصابته حالةَ الغفلة المنبئةِ عن السكون بالإتيان، وقيل: التخوّفُ التنقّص، قال قائلهم:
تخوّفَ الرحلُ منها تامكًا قردا ** كما تخوّفَ عودَ النبعة السفن

أي يأخذُهم على أن يَنْقُصَهم شيئًا بعد شيءٍ في أنفسهم وأموالِهم حتى يهلِكوا، والمرادُ بذكر الأحوال الثلاثِ بيانُ قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأي وجهٍ كان لا الحصرُ فيها {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلُم عنكم مع استحقاقكم لها.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} استفهامٌ إنكاريّ، وقرئ على صيغة الخِطاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألم ينظروا ولم يرَوا متوجهين {إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء} أي من كل شيء {يَتَفَيَّأُ ظلاله} أي يرجِع شيئًا فشيئًا حسبما يقتضيه إرادةُ الخالق تعالى، فإن التفيّؤَ مطاوِعُ الإفاءةِ، وقرئ بتأنيث الفعل {عَنِ اليمين والشمآئل} أي ألم يرَوا الأشياء التي لها ظلالٌ متفيِّئةٌ عن أيْمانها وشمائلِها أي عن جانبي كل واحد منها، استُعير لهما ذلك من يمين الإنسانِ وشمالِه {سُجَّدًا لِلَّهِ} حالٌ من الظلال كقوله تعالى: {وظلالهم بالغدو والاصال} والمرادُ بسجودها تصرّفُها على مشيئة الله وتأتّيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلصِ وغيرِهما غيرَ ممتنعةٍ عليه فيما سخرها له، وقوله تعالى: {وَهُمْ داخرون} أي صاغرون منقادون، حال من الضمير في ظلاله والجمعُ باعتبار المعنى وإيرادُ الصيغةِ الخاصة بالعقلاء لما أن الدخورَ من خصائصهم، والمعنى ترجِع الظلالُ من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارِها أو باختلاف مشارقِها ومغاربها فإنها كلَّ يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معينٍ من المدارات اليومية بتقدير العزيزِ العليم، منقادةٌ لما قُدّر لها من التفيّؤ أو واقعةٌ على الأرض ملتصقةٌ بها على هيئة الساجد، والحالُ أن أصحابها من الأجرام داخرةٌ منقادةٌ لحكمه تعالى، ووصفُها بالدخور مغنٍ عن وصف ظلالِها به، وكلاهما حالٌ من الضمير المشار إليه، والمعنى ترجع ظلالُ تلك الأجرامِ حالَ كونها منقادةً لله تعالى داخرةً، فوصفُها بهما مغنٍ عن وصف ظلالِها بهما، ولعل المرادَ بالموصول الجماداتُ من الجبال والأشجارِ والأحجارِ التي لا يظهر لظلالها أثرٌ سوى التفيّؤِ بما ذُكر من ارتفاع الشمسِ وانحدارِها أو اختلافِ مشارقها ومغاربها، وأما الحيوانُ فظلُّه يتحرك بتحركه، وقيل: المرادُ باليمين والشمائل يمينُ الفَلكِ وهو جانبُه الشرقيُّ لأن الكواكبَ منه تظهر آخذةً في الارتفاع والسطوعِ، وشمالُه وهو جانبُه الغربيُّ المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدىء من الشرق واقعةً على الرُّبع الغربي من الأرض، وعند الزوالِ تبتدىء من الغرب واقعةً على الربع الشرقي منها، وبعد ما بُيّن سجودُ الظلالِ وأصحابِها من الأجرام السفلية الثابتة في أخبارها ودخورُها له سبحانه وتعالى شُرع في بيان سجودِ المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أو لا فقيل: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} أي له تعالى وحده يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالًا أو اشتراكًا، فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصرُ الإفراد كما يؤذن به قوله تعالى: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} {مَا فِي السموات} قاطبة {وَمَا في الأرض} كائنًا ما كان {مِن دَابَّةٍ} بيانٌ لما في الأرض، وتقديمُه لقلته ولئلا يقعَ بين المبين والمبين فصلٌ، والإفرادُ مع أن المرادَ الجمعُ لإفادة وضوحِ شمولِ السجود لكل فرد من الدواب.
قال الأخفش: هو كقولك: ما أَتَانِي من رَجُلٍ مثلِه وما أتاني من الرجال مثلُه {والملائكة} عطف على ما في السموات عطفَ جبريلَ على الملائكة تعظيمًا وإجلالًا، أو على أن يراد بما في السموات الخلْقُ الذي يقال له الروح، أو يراد به ملائكةُ السموات، وبقوله: {والملائكةُ} ملائكةُ الأرض من الحفَظة وغيرِهم {وَهُمْ} أي الملائكةُ مع علو شأنِهم {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته عز وجل والسجود له، وتقديمُ الضمير ليس للقصر، والجملةُ إما حالٌ من ضمير الفاعل في يسجد مسندٌ إلى الملائكة أو استئنافٌ أخبر عنهم بذلك.
{يخافون رَبَّهُمْ} أي مالكَ أمرِهم وفيه تربيةٌ للمهابة وإشعارٌ بعلة الحكم {مّن فَوْقِهِمْ} أي يخافونه جل وعلا خوفَ هيبةٍ وإجلالٍ وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أو يخافون أن يرسِل عليهم عذابًا من فوقهم، والجملةُ حالٌ من الضمير في لا يستكبرون أو بيانٌ له وتقريرٌ لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات، وإيرادُ الفعل مبنيًا للمفعول جرْيٌ على سَنن الجلالة وإيذانٌ بعدم الحاجةِ إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استنادِه إلى غيره سبحانه، وفيه أن الملائكة مكلّفون مُدارون بين الخوف والرجاء. اهـ.